نائب السفير الالماني يضع سقفا للحوار
شبكة عدن بوست
احمد عبداللاه
في مقال سريع شديد التناقض ساق لنا نائب السفير الالماني أفكار تتعلق بالقضيه الجنوبيه فقدَّم في مستهل كتابته ،بان الوحده التي سعى اليها الجنوب اصبحت الآن مفروضه يكرهها الجنوبيون الذين اصبحوا يطالبون باسترداد حقوقهم .
وهذا بالطبع يعكس الواقع الحقيقي حيث لخص الكاتب صلب الإشكالية القائمه في رفض شعب الجنوب للوحدة المفروضة ،
لكن الكاتب عاد يشرِّع هذا الوضع من خلال رؤيته بان الجنوب قد ربط نفسه بالتصويت على الدستور .. فأغفل بذلك أن شنَّ حرب عام ٩٤ التي تشكل على اثرها واقع سياسي مغاير تماماً للمبادئ التي قامت على اساسها الوحده قد أنهت حقيقة الوحده الطوعيه والغت الشريك الآخر بل وغيبت شعباً بثقافته ومكتسباته المدنيه وأقصت كافة النخب والكادرات التي انتسبت يوما ما لدولة الجنوب بينما هيمن الطرف الاخر على كل مفاصل الحياه .
إن الدستور الذي صوت عليه الجنوبيون لم يشرًّع للحرب وهيمنة طرف على آخر بل بالعكس فقد كان اعلان الحرب تجميداً للدستور وكل الاتفاقات المبرمه حيث تم تقويض كل الاسس القانونية والاخلاقيه لدولة الوحده التي لم يمض على اعلانها غير اربع سنوات تخللتها ازمة سياسيه عميقه تفككت عندها كل الاواصر بين الطرفين .
امااشارة الكاتب بان (البيض قد خالف الدستور حين اعلن فك الارتباط ) فقد كانت عبارة مبتوره تشق كبد الحقيقه لتغيِّب النصف الذي يحمل الدلاله المطلقه لسببية الاعلان ، وهي الحرب التي احرقت كل الاتفاقات والدساتير واحرقت بداخل النفوس تاريخاً طويلاً من المشاعر الوحدويه .
ان الحقيقة التي يدركها العالم بان الدساتير والانتخابات في الانظمه الغير ديمقراطيه والتي تحكمها دكتاتوريات منذ عقود عده ليست سوى مسائل شكليه يكيفها الحاكم كيف يشاء ولم تكن الشعوب العربيه قد أيقنت بان الدساتير تمثل مرجعية حقيقيه يتم العمل بها في جميع مناحي الحياه ، ولهذا أطاح الربيع العربي بأنظمة الحكم وهيئاتها التشريعيه ودساتيرها وسعى لاعادة صياغة الحياة السياسيه بمجملها على أسس ديمقراطيه حقيقيه . اذاً ليس من المنطق القول بان الجنوبيين قد وضعوا الحبل حول أعناقهم بمجرد انهم صوتوا للدستور وعليهم البقاء حتى تأذن لهم السماء او ينهون أعمارهم دون ذلك.
إن مشروع الوحده اليمنيه كان مشروعاً سياسياً إستراتيجياً كوسيلة للاستقرار والتنميه والتكامل ويعلم العالم ان هكذا مشروع تاريخي يجب ان يستند الى قيم راسخه في المجتمع كالديمقراطيه ، والحريه ، والعداله الاجتماعيه ، وحقوق الانسان ، ووجود دولة مدنية يسودها النظام والقانون ، ودستور حقيقي ، وجيش وطني يحمي الدوله وليس النظام ، وسلطة منتخبه يتم تبادلها سلمياً ، ولا يمكن ان يتم دمج دولتين من خلال مشاعر الأخوة والود ، وهو ماتم بالفعل ، ولانه من الاستحالة بمكان ان يُبْنى حلمٌ سياسي بقرار رئيسين في غياب كافة الشروط الضروريه لاستمراره فقد انهار على ارض الواقع وتم إجهاض الوحده في أولها واتضح ان الحلم السياسي كان تصميم هندسي هش على الورق دون أرضية حقيقيه لتحويله الى واقع ، فأتت حرب ٩٤ التي وصفها الكاتب بالحزينة وهي في الواقع كارثة في تاريخ الجنوب الذي وجد نفسه بعدها منهوباً مسلوباً ضائعاً وبذلك سادت الوحدة المفروضه، التي أوعز اليها نائب السفير ، حيث بدأ الجنوب يتلمَّس حضوره الباهت في الحياة اليوميه بمشقاتها وغيابه الواضح في دوائر الفعل السياسي والاقتصادي ، تشتت كوادره في الخارج والداخل واستكانت نخب واسعه في بيوتها وانتشر الفقر وعادت الاميه بين الشباب واصبحت فرص الحياة الكريمه في مهب الضياع والفوضى . وهنا سيكون الحديث طويل وجارح لايدركه دبلوماسي غربي يتحدث من على ارتفاع شاهق ، و يستمد معلوماته من تقارير استخباريه وجلسات نخبويه ودِّيِّه .
وفي سياق آخر تحدث الكاتب عن ان الاخ الرئيس أشار انه لا خطوط حمراء في الحوار ، كما اورد عن رئيس الوزراء بان طرح مسألة الانفصال لاتشكل عائقاً امام الحوار، لكنه إستدرك بان المجتمع الدولي يؤكد على بقاء الوحده ، وبهذا أعاد السقف الذي أزاحه الرئيسان ليصبح بذلك جهة دبلوماسيه يمثل العالم في وضع سقف الوحده لاي حوار قادم .
أمر غريب ! فالواضح ان اليمن تحت الوصايه الأمميه لكنه ليس من الواضح ان تصل الوصايه حد الأملاء القهري لتضع عائق امام حوار ، لا زال في دائرة الجدل ، كان رئيس الجمهوريه ورئيس الحكومه قد حرصا على إزالته ، فلربما كان ذلك دليلاً كافياً بان الدبلوماسية الغربيه قاصره في فهم تفاصيل الاوضاع السياسيه وتنطلق من مفاهيم عامه وفقاً لتوجهات بلدانهم ، وهناك تاريخ طويل لاخفاق الدبلوماسيه الغربيه في كثير من البلدان العربيه وقصور مؤلم في مساهمتها بتكوين رأي رسمي لدولها حول قضايا المنطقه حيث ساهم هذا القصور في احداث زلازل كبيرة في المنطقه نعرفها جميعا وكانت الدوائر الغربيه لا تقيم وزناً للشعوب المقهورة ولم تستطع رصد درجة الاحتقان المشحون بالغضب حتى ان الربيع العربي انطلق كالحريق دون ان تتوقعه تلك الدوائر ولم يتبادر الى ذهنها أبدا حتى انها وقفت في بادئ الامر مأخوذة مرتبكه متناقضة في مواقفها فسلكت مسالك مختلفه وهي على عجلة من أمرها .
لقد تحدث صاحبنا عن القانون الدولي في تقرير المصير وممارسته بانه يحفظ سيادة الدول وحدودها ونسي او تغافل ان العالم فرض فصل جنوب السودان خلافا لدستوره وهو دولة واحده منذ المنشأ وساعد على انفصال اريتيريا من اثيوبيا باتفاق بينهما وانفصلت اجزاء من البلقان والتشيك رغم دساتيرها وحدودها القديمه وبالرغم من الدستور الفدرالي الكندي الا ان تلك الدوله سمحت لمقاطعة كيوبك بالاستفتاء حول بقائها او انفصالها . ولا اتوقع ان سعادة الدبلوماسي الالماني ،الذي نصب نفسه مشرِّع ومحكِّم ، بانه لا يدرك كل تلك النماذج وغيرها .
ربما على قارئ المقال الذي كتبه نائب السفير بالعربيه ان يغفر له ما كتب عن ان شعب الجنوب قد ربط نفسه بشعب الشمال لان هذه الفقرة تحمل اشارة لهامعاني عده غير تلك التي اوقعته اللغه العربيه خارج دلالتها ، فالجنوب لم يربط نفسه باحد بل ذهب طوعاً الى وحدة متكافئه تقوم على قيم ومبادئ غير تلك التي سنَّتها وشرَّعتها حرب ٩٤ .
وعلى الكاتب ان يدرك بان الشعوب لم تعد قاصره فمكَّة أدرى بشعابها ولا يمكن ان تاتي الحلول من الخارج الا مساعِدَةً والشعوب اصبحت واعيه لمفاتيح الاستقرار الحقيقي الثابت والذي يقوم على مبادئ العدل واستعادة الحقوق ورفع المظالم وتمكينها من تحقيق مصائرها سلمياً فالجنوب والشمال بحاجة الى تكامل استراتيجي في السياسة والاقتصاد والأمن في ظل قيم جديده وليسا بحاجة الى توحيد نظام سياسي يقوم على اساس هيمنة طرف على آخر عن طريق الاستقواء والإلغاء .
ان اليمن ليست المانيا التي اتى منها الكاتب وهو يدرك كيف تمت وحدة الألمانيتين وكيف كان برنامج تنمية البنيه التحتيه وبرامج اقتصاديه باهضة الكلفه سخرتها خزينة دولة المانيا الغربيه لشريكتها الجديده ويتذكر ان احد الاحزاب الرئيسه في المانيا الغربيه وهو الحزب الاشتراكي الاجتماعي (SPD) لم يؤيد فكرة الوحده حينها حتى يتم إنعاش اقتصاد الشرقيه للحيلوله دون الهيمنه الغربيه على قطاع الاقتصاد التابع للدوله الشرقيه والذي تم بالفعل حين انهارت الصناعات الشرقيه جميعاً منذ الوهلة الاولى ، الا ما استطاع منها البقاء ، ولا زالت فئات شرقيه تحن لماضيها. وبالرغم من ذلك فان وحدة المانيا قامت على التضامن والتضحيه بأموال طائله لرفع كفاءة الشريك الضعيف الذي دخل في الاتحاد الفدرالي بشكل ديمقراطي طوعي بعد الانتخابات التي اعقبت سقوط النظام الشرقي ولم تقم الوحده من خلال اتفاق زعيمين جمعتهما المشاعر في لحظة لبست السياسة فيها ثوباً رومانسياً ، ولم تكن هناك حرب ساد فيها جزء وتلاشى آخر.
وحين تصبح المسافة بين المانيا واليمن تقاس بالسنين الضوئيه فان الاحتكام للعقل في اي طرح يصبح من الحكمه .
إن الدبلوماسيه بأحاديثها وآرائها حول وضع مأساوي يعيشه شعب إما ان تكون انسانيه ذات قيم ومبادئ تناصر حق الشعوب في الحريه والحياه الكريمه ، او تصبح كحزمة الاصوات الكهربائيه الصادره من جوف الانسان الآلي كيفما شاءت برمجته ، وهذا بالطبع معيب حتى لو اسْتُشْهِدَ بكل فقرات القانون الدولي والكتب المقدسه ، لانه يصبح قول يصعِّد الغضب ويرسخ عدم الثقه . ولا يمكن لاحد ان يتوقع بان القانون الدولي كجلمود من الفقرات المتحجره تصد عنها تطلعات الشعوب المكلومه كما انها لن تكون منظومة أحجيات يتم تفسيرها بمعايير مختلفه كيفما اقتضت توجهات الدول الكبيره .
ان احد لا يصدق بان دبلوماسي يستبق كل شيء ويقدم تفسيراً للقانون الدولي معتقداً بانه قد وضع حداً لتطلعات الجنوب بل ناصحاً بان على الجنوب ان يتجرع المُر ويستكين لمشيئة الاقوياء . لكنه تناسى انه بقوله ذلك قد وضع مسألة الحوار جانباً وان السقف الذي حرص الجميع على الغائه قد أعاد بناءه.
ان علينا ان نتمنى بان نائب السفير الالماني لا يمثل توجهات دولته بكتابته تلك لان ما يسعى لتقديمه بشكل دائم سيبقى في ذاكرة ابناء الجنوب الذين يحرصون على ان تبقى دولة المانيا صديقه في الحاضر والمستقبل . فلا يعتقد احد انه قادر ان يضرب سياجاً حول ارادة اي شعب مهما كان عتيا.