الجنــــوب وخيارات (الحمى والموت)
بعد مقالة سابقة له كتب الدبلوماسي الألماني السيد فيليب هولسابفيل نائب السفير الألماني بصنعاء مقالاً نارياً جديداً خص به صحيفة عدن الغد الغراء, وهو الموضوع الذي نال اهتمام واسع من السياسيين والناشطين ومن الرأي العام وبخاصة في الجنوب باعتبارهم المعنيين بالرسالة وما تضمنته, دلت عليه عدد الذين تناولوا وناقشوا ما ورد فيه في كتابات عديدة نشرتها الصحيفة ذاتها ووسائل ومراكز إعلامية أخرى.
يعود أهمية الموضوع والاهتمام به إلى مكانه كاتبة والمهام التي يشغلها والدولة التي يمثلها وإلى ما تضمنه المقال من آراء وملاحظات وما ذهب إليه من أحكام واستنتاجات, والتوقيت الذي نشر فيه المقال, سبق وإن قام الزملاء بمن فيهم الساخطين على ما آلت إليه الأوضاع في الجنوب, وما يعتبره كثيرون تحيزاً وتجاهلاً من الدول والمنظمات الإقليمية والدولية قاموا بالكتابة تعليقاً على ما ورد في المقال. أتسمت كثير من التعليقات وردود الأفعال التي نشرت بالموضوعية والرصانة, وعلى أساس الحجج والبراهين وعرض الحقائق وبحس سياسي رفيع جرى التعبير عن الاختلافات وعرض الآراء المغايرة والدفاع عن وجهة النظر الجنوبية بخطوطها العامة, المعبرة عن قضية الجنوب وتطلعات وحقوق شعبه. ومع ذلك فقد أنساق البعض وراء نظرية المؤامرة, وحملت بعض الكتابات عبارات مسيئة, طالت ما هو أبعد من المقال والمسائل موضوع الاختلاف والنقاش, وخرجت عن تقاليد الحوار بين المختلفين في الآراء ووجهات النظر.
ومثلما أختلف الكثيرون مع ما ورد في مقال السيد فيليب, فقد رفضوا أيضاً تلك التناولات الغير موضوعية والغير مبرره بما فيها ما يمكن اعتباره إساءات وعبارات غير لائقة من الواجب الاعتذار عنها سواء للصديق فيليب أو لغيره, مع التأكيد على أنها لا تعبر بأي حال من الأحوال عن الرأي العام في الجنوب وقوى الثورة الجنوبية, ولا عن قيم وأخلاق شعبنا ونظرته للشعوب الأخرى, وأتمنى شخصياً أن لا يكون لها أي أثر سلبي على الحوار الذي يجب أن يستمر ويتطور ويتسع نطاقه والمشاركين فيه, وخاصة حول الموضوع في الجنوب الذي تعرض لعملية تشويه منتظمة وواسعة طوال العقدين الماضيين, أنتجت التصورات الخاطئة وسوء الفهم الذي يتجسد اليوم في قناعات الأفراد بمن فيهم السيد فيليب أو سياسيات ومواقف المنظمات والحكومات المختلفة.
كما أتمنى أن لا يشكل ما قاله أو كتبه أفراد محدودين معوقاً للدور والموقف الألماني بشقيه الرسمي والمجتمعي, الذي أعتبره شخصياً إيجابياً ومتقدماً عن مواقف دول وأطراف أخرى, خاصة إزاء الوضع في الجنوب, أكدته لقاءات بوتسدام والبحر الميت وجهود أخرى. وهي المواقف والمبادرات التي نأمل إن تتواصل وتتقدم وتقترب من الحقيقة وتتجاوز جوانب ضعفها ويصحح ما بني على سوء الفهم والمعلومات المظللًّة وعملية التشويه والتزييف التي جرت ولازالت مستهدفةً الجنوب وتاريخه وما يعتمل فيه, وهو تحول نأمل أن يتحقق أيضاً في توجهات ومواقف كل الدول والمنظمات الراعية للعملية السياسية في اليمن والمهتمة بما يحدث في هذه المنطقة الحساسة في العالم.
إن حدة الاختلاف (الذي لا يفسد للود قضية) مع بعض الذي ورد في مقالة السيد فيليب لا تعود إليها بالذات, وإنما لأن المقال أُعُتبر وهو كذلك جزء من أداء سياسي وترتيبات لا يرى فيها الجنوب التوازن والإنصاف ولا تستجيب لحقوقه ولا تلبي تطلعات شعبه المشروعة, بمعنى أخر أنما ما أثار ردود الأفعال والحادة أحياناً وولد القلق لدى عامة الناس ليست أخطاء واردة في المقال وإنما النتيجة والهدف السياسي الذي أراد نائب السفير تأكيده وتدعيمه كخيار وحيد يسعى إلى إقناع الجنوبيين به, والذي لأجله عمل على توظيف موضوعه ومن خلال قلب الحقائق وتجاهل بعضها وتطويع الأحداث لخدمة الهدف المحدد سلفاً, كما أعتمد على استخدام المعايير المزدوجة والانتقائية سواءٍ عند تقييمه وإشارته لما شهدته اليمن في العقدين الماضيين, أو في محاولته الاستعانة بتجارب أخرى وبالقانون الدولي.
كما وقع في تناقضات عدة عند استعراضه لأحداث وتطورات ماضية حيث رفع من شأن بعضها وتجاهل أخرى ربما أهم منها, مثلاً عندما أشار إلى المظاهرات التي شهدتها الجنوب بداية التسعينيات تأييداً لإعلان الوحدة وكانت محدودة في الزمان والمكان ولها ظروفها, وفي ذات الوقت تجاهل الحراك الجماهيري السلمي الواسع الذي شهدته الجنوب من أقصاه إلى أقصاه طوال سنوات ما بعد 94 وبخاصة منذ عام 2007م شاركت فيه مختلف شرائح وفئات المجتمع الجنوبي وجَرت تحت شعارات وأهداف محددة وواضحة ومعلومة للجميع.
جاء مقال الدبلوماسي الألماني في إطار الجهود والمساعي التي يبذلها ممثلو القوى الراعية للعملية السياسية لإقناع الجنوبيين وتحديداً الحراك السلمي بالمشاركة في الحوار العام, الذي يُعد أهم محطة في العملية السياسية وترتيبات ومهمات المرحلة الانتقالية, وهو الجهد الذي قد يتعزز في الأيام القادمة ومن المحتمل أن يأخذ شكل الضغوط المباشرة والغير مباشرة بما فيها أعمال على الأرض واستهداف لناشطين وسياسيين ودفع الأوضاع في الجنوب نحو مزيد من التدهور, وفي هذا السياق يمكن فهم إشارة السيد فيليب إلى خيارات (الحمى والموت) باعتبارها تهيئة لما ستأتي به الأيام القادمة, مع الإدراك بأن لا توجد فروق جوهرية بين الخيارين إذ أن بعض أعراض الحمى عادةً ما تؤدي إلى الموت, وعليه يمكن إعادة صياغة الخيارات بين موت مُعجل وأخر مؤجل.
أعتقد أن التعاطي مع الحالة الجنوبية بالاعتماد على هذه القاعدة ليس فيه شي من الحصافة ويخلو من المسؤولية ويعرض المشروع كله للفشل والانهيار وهو منطق يفتقد إلى أي شرعية عداء شرعية القوة الذي أعتمدتها سلطة 7-7 مع الجنوب منذ عام 94, وبتعارض مع قواعد العمل السياسي والرعاية النزيهة ومع قواعد القانون الدولي والأعراف والقيم الإنسانية ومع الأهداف المعلنة. حيث لم يُسبق لأي جماعة بشرية سعت لنيل حقوقها المشروعة أن وضعت أمام مثل هذه الخيارات, هذا إذا كان السيد فيليب ينقل وجه نظر المجوعة الراعية, أما إذا كان يريد تنبيه الجنوبيين لما تحضره لهم قوى الضم والإلحاق في الشمال فهذا أمر أخر وليس فيه جديد عما يُسمع كل يوم من تهديد ووعيد وفتاوى وتعبئة وتحريض وإجراءات أخرى على الأرض تستهدف الجنوبيين.
وهي حالة تدفع إلى التساؤل عن دور الأطراف الراعية إزاء ما يحدث, وهو دور أتسم حتى الآن بالسلبية ويسير باتجاه واحد وهو دفع الجنوب إلى الوفاء والقيام بما يتطلبه منه نجاح العملية السياسية بانتقال السلطة دون أن يُلمس أي توجه جاد أو موقف واضح أو قدر من الضغط لصالح الجنوب وشعبه, كما لم تقم هذه الأطراف بما هو مطلوب منها لمعالجة فجوة المرجعيات التي قامت عليها العملية السياسية.
وكما سبق الإشارة فقد جرى تغييب قضية الجنوب وثورته عن المشروع السياسي, وأن حضرت بعض جوانب وعناصر القضية فتكون في غير موضوعها ومقيدة باشتراطات وحلول مفروضة سلفاً ويحيط بها الغموض والنوايا المتربصة المستوحاة من أرث الماضي (اللعين), وتدفع إلى المجهول تحت ستار من الكلام العاطفي الفارغ من أي مضمون ودون توفر حد أدنى من التكافؤ والضمانات المؤكدة بما فيها الرعايا النزيهة, والإقرار الواضح بحق شعب الجنوب للحرية وتقرير مصيره وبأن الوحدة السلمية الطوعية الاندماجية قد فشلت وانتهت في حرب 94 بما يترتب على هذه الحقيقة من نتائج وفي مقدمتها حق الجنوب في إستعادة دولته مثلما ظل الشمال محتفظاً بدولته وسلطته وسيداته على أرضه.
وللتدليل أكثر على التجاهل والتهميش الذي يعامل به الجنوب وقضيته وحراكه السلمي ومكوناته وقواه الأساسية يمكن الإشارة فقط إلى أن القوى السياسية في صنعاء ومراجع السلطة ومعها الأطراف الراعية قد تجاهلت تماماً, كل الآراء والمطالب التي طرحتها قوى جنوبية مختلفة على أعضاء لجنة التواصل وممثلي الأطراف الراعية في اللقاءات التي عقدت معهم مؤخراً في كل من عدن وصنعاء وفي الخارج, مع كونها مطالب واقعية هدفت إلى إنجاح مؤتمر الحوار.
وكان من أهم المسائل التي أجمعت عليها القوى والمكونات الجنوبية وأعتبرتها ضرورية لنجاح الحوار العام والشامل هو مساعدة وتمكين الجنوبيين من إجراء حوار جنوبي أو مؤتمر جنوبي جامع أولاً تنتج عنه رؤى وتصورات وآليات موحدة يصنعها ويشارك فيها الجميع تمثل الجنوب في الحوار العام.
وللأسف فقد نظر البعض في صنعاء إلى مثل هذه الخطوة على أنها عقبة أمام الحوار العام, ولم تتفاعل الأطراف الراعية مع مثل هذا المطلب الواقعي والمشروع, بإستثناء منظمات ألمانية, تبنت هذا التوجيه وسعت فيه بتشجيع من الحكومة الألمانية.
كما أن الجنوب لم يشهد أي تطورات وإجراءات جديدة إيجابية ولا سياسيات وممارسات تختلف عن ما أتبع قبل التغيير الذي حدث في إطار مؤسسات السلطة, بإستثناء الجدية والحسم اللذان أتسم بها التعامل مع الأوضاع الشاذة التي كانت قائمة في كل من محافظتي أبين وشبوة, لعب فيها أبناء الجنوب دوراً مميزاً. حيث ازدادت الأوضاع تعقيداً وتفاقمت معاناة الناس ومشاكلهم, وهناك إصرار على الاستمرار في إدارة الجنوب بالقبضة الحديدية والإجراءات الإستثنائية بما فيها العسكرية والأمنية ضد المواطنين ومدنهم ومناطقهم والقتل والانتهاكات الجسيمة ومصادرة الحقوق, وتشجيع الفوضى والعنف والإرهاب, والعقوبات الجماعية بحق السكان ومنها أزمات الكهربا والمياه, وتواصل معاناة المشردين من محافظة أبين نتيجة لبطئ الإجراءات والأعمال الضرورية لتطبيع الأوضاع في المحافظة وتمكينهم من العودة إلى بيوتهم, كما وتوجد قضايا أخرى لا تقل أهمية وتأثير مثل الجرحى والمعتقلين والمخفيين وأسر الشهداء ووضع صحيفة الأيام وغيرها, وهي قضايا التي لامست بعض منها اللجنة التحضيرية للحوار في مقترحاتها التي رفعتها مؤخراً إلى رئيس الجمهورية وتبقى العبرة في التنفيذ.
لقد تفضل السيد فيليب بدعوة حكومة الوفاق الوطني بأن تهتم بمعالجة المشكلات القائمة في الجنوب وكل ما له صلة بالقضية الجنوبية حيث كتب في مقالة الأنف الذكر ((من الطبيعي أن يكون جزء كبير من حل هذه القضية في سياسة الحكومة في صنعاء, هناك العديد من الإجراءات ينبغي على الحكومة أن تأخذها من أجل تصحيح أخطاء سابقة وبناء الثقة لدى الجنوبيين)).
الحكومة وغيرها من الهيئات لم تفعل شيئاً مما طالبتها به يا صديقنا فيليب, وبإمكانك وأي من زملاءك زيارة عدن أو غيرها من مناطق مدن الجنوب والإطلاع على الحالة القائمة وسماع آراء الناس.
ختاماً لمناقشة بعض مما ورد في موضوع نائب السفير أود القول أن المقال قد أحتوى أيضاً على ملاحظات وأفكار إيجابية, من المهم إبرازها والتأكيد عليها والسعي وعبر الحوار والحجة إلى تطوير وتصحيح بعضها الأخر.
أن تكثيف التناول لمسائل ذات العلاقة بموضوع الحوار الوطني لا تعني بالمطلق تأييداَ أو تبريراً للمواقف العدمية الدعائية من موضوع الحوار, التي لا تمتلك تصورات بالبدائل, والتي لم تقبل بمناقشة الموقف من الحوار مع بعض من مكونات الحراك والقوى السياسية الجنوبية الأخرى وتهدر فرص الوصول إلى توافق جنوبي حول هذه المسألة الحساسة كما في غيرها, كما لا يعني تشجيعاً للمهرولين للحوار دون توفر حد أدني من الوضوح والضمانات وفرص النجاح, ودون إنجاز تقييم شامل لمسألة المشاركة -مالها وما عليها- وما تستلزمه من إعداد سياسي وتنظيمي وفني تشارك فيه أفضل كفاءات الجنوب, ودون الحصول على تأييد كامل من الجماهير الجنوب وتوافق مكونات الحراك مع سائر القوى الأخرى باعتبارها من أهم متطلبات وضمانات النجاح, حتى لا يجد الجنوب نفسه أمام فخ جديد كما حصل في عام 90.