قراءة في ديوان ( وراء هذا الغموض تتكورُ قناديلي راشةً ) – للشاعرة : رحمة عناب – فلسطين .
بقلم : كريم عبدالله – العراق 11/11/2020 .
التجلّيات الأبداعية في القصيدة السرديّة التعبيريّة
ممالاشكّ فيه انّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج اذا لم يستطيع الشاعرتطويرها واستثمارها أقصى إستثمارعن طريق الاطلاع على تجارب الاخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه , وتسخيرالخيال الخصب في انتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه , وقد تموت ايضا اذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لأنضاجها , وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة , فلابدّ من التواصل والتلاقح مع تجارب الاخرين الناجحة والعمل على صقل هذه الموهبة وتطويرها والاهتمام بها وتشجيعها والوقوف الى جانبها قبل أن تُجهض .
يقول سركون بولص : ( ونحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبيرخاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعرالأوربي هي شيء آخر , وفي الشعر العربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت وأودن و كما كان يكتبه شعراء كثيرون في العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غيرمقطّعة ). من هنابدأنا نحن وأستلهمنا فكرةالقصيدة / السرديّةالتعبيريّة / بالأتكاء على مفهوم هندسة قصيدةالنثر ومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب من ضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لها حسبما يعتقد / وهي غيرقصيدة نثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّما يُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كل البُعدعن قصيدة النثر .
اذا كان السرد النثري هو سرد قصصي – حكائي يقصد الحكاية اوتوصيلي بشكل خطاب ورسالة أو الوصف , فأنّ السرد في الشعرهوسرد لابقصد السرد , هوالسرد الذي يمانع ويقاوم السرد , أنّه السرد بقصد الأيحاء والرمز ونقل الأحساس وتعمّد الأبهار وتجلّي لعوالم الشعور والأحساس وتعظيم طاقات اللغة , فأنّما نقصده بالتعبيريّة أواللغة التعبيريّة فهي اللغة التي تتحدث عن المشاعر والعواطف والحالات الذهنيّة عن طريق تكثيف اللغة وأنزياحاتها العظيمة والدهشة المبهرة , أنّها التعبير عن مشاعر الذات الأنسانيّة وعمّا يدور في داخلها وأعماقها , وما يستغور في عوالم الذات الأبداعيّة الخلاّبة والغامضة , وعن طريقها يمكننا أن نتلمّس ونشاهد العوالم الداخلية للشاعر ., أنّها التجربة الداخليّة للذات الشاعرة والتي لابدّ لها من أن تظهر على السطح وتستفزّ المتلقي .
ويخطىء مَنْ يظنّ ويعتقد بأنّ التعبيريّة هي الكلام المعبّر عنه بالحكي والقصة والأنشاء العادي والسطحي , لهذا فأنّ الكتابة المباشرة والسطحية تجعل العقل تابعا لمايقرأ , وحينها يكون العقل أعمى وبليد يعيش في رتابة وخمول , عكس الكتابة باللغة التعبيريّة التي تحتاج الى قارىء يمتلك حدسا يقظا نشيطا مبدعا , حدس قويّ يمكّنه من أكتشاف العوالم الداخلية البعيدة عند الشاعر, أنّ اللغة التعبيريّة هي التعبيرعن القيم المعنوية لدى الشاعر بدلا عن محاكاة الواقع , أنّها التعبير عن مشاعر الذات , أنّها الذاتية الأبداعية التي تغور في العوالم الدفينة والغامضة لهذه الذات , أنّها التعبير عمّا يدور ويتجلّى في داخل الأنسان . أنّها الأشراقات عن الحالات الذهنية والنفسية دون اللجوء الى الخيال والرومانسية , هي أنعكاس لمايحدث في هذا العالم من الخراب ومدى تأثيره في نفس الشاعر , أنّها الرؤية العميقة والتأمّل في أعماق الذات.أنّ الكتابة عن الشاعرة : رحمة عناب تتطلب جهداً وصبراً كي نتمكن من الأمساك بجمال المفردة الممزوجة بدهشة الفقرة النصّية وعظمة اللغة المبهرة , فهي الشاعرة المخلصة لقصائدها والتي تأتي دائماً من أعماق الذات البعيدة مشحونة بزخم شعوري عنيف , وأختيار ذكيّ وموفّق في رسم الصورة الشعرية التعبيريّة من خلال المفردة الأكثر تأثيراً في المتلقي والنفاذ الى ذاكرته . أنّ أغلب نصوص الشاعرة تأتي دائماً على شكل كتلة واحدة وبفقرة نصّية واحدة وهذا مايستدعي الى وجود قارىء مجتهد ومبدع كي يتمكن من فكّ شيفرات هذه النصوص ومعرفة الدلالات التي توحي بها .
وهنا سنتحدّث عن ((التجلّيات الأبداعية في القصيدة السرديّة التعبيريّة )) لدى الشاعرة : رحمة عناب وعن ديوانها البكر هذا ( وراءَ هذا الغموض تتكوّرُ قناديلي راشعةً ) . وراء هذا الديوان سنقرأ هذه اللغة المرمزة بعناية فائقة وابداع فذّ , سنجد بأنّ قصائد لبشاعرة تتجمّع بطريقة ملفتتة للنظر , وتفتح ابوابها مشرعة امام المتلقي للأبحار في ينابيعها السرّية , قصائد ترتعش خشية وقلقا كونها قصائد اولى للشاعرة , وكون التجربة الأولى للشاعرة هي الأولى , لذا لن يهدأ لها بال ولن تشعر بالأرتياحوالأطمئنان والسكينة , لطوح الشاعرة في ان تكون هذه التجربة ( الأولى ) تجربة حقيقية تستحق الأهتماموالألتفات إليها , وقد كانت فعلا هذه التجربة الأولى مثيرة بما فيها من عظمة لغة وخيال ديكتاوري جامح ورهافة إحساس ورقّة مشاعر ورساليّة فنية وإجتماعية وبوح أقصى وتجلّيات مبهرة للسرديّة التعبيريّة , من اللغة المتموجة , إلى البوليفونية والفسيفسائيّة واللغة التجريدية واللغة التعبيرية واللغة الهامسة والمستقبلية واللغة القاموسيةووقعنة الخيال .
سننتطرق الآن عن جماليات هذا الديوان ونفتح أبواب كنوزه أمام المتلقي ليجد ويتلمّس النواحي الأبداعية فيه , وستكون محاور القراءة كما يلي :
اولاً : اللغة الشعريّة : اللغة هي الجناح الذي به يحلّق الشاعر بعيدا وتتشكّل القصيدة حيّة نتلمس عطرها وتلاحقنا صورها بدهشتها وعمقها وفضاء تأويلها والاستئناس بلذّتها الحسيّة والجمالية تملأ ارواحنا بالجمال واللذة , اللغة هي الشجرة الوارفة التي تحتها نستظلّ فيئها وتأخذنا الى عوالم بعيدة تنتشلنا من كلّ هذاالضجيج الذي عمّ الافق وسدّ منافذه وانتابنا خمول في الذاكرة ونقطف ثمارها ناضجة لذيذة . اللغة هي اليقظة والنشوة والدفء والضوء الذي ينبعث من اعماق الذات تسحبنا من نومنا العميق تستفزّ خمولنا . على الشاعر الحقيقي ان يمتلك لغة خاصة به يحنو عليها ويشذّبها ويعمل عليها كالمونتير الذكي يقطع المشاهد التي تجعل القصيدة مترهّلة ويضيف اليها ما يوهّجها اكثر ويفتح للمتلقي أفقاً شاسعا للتاويل , يغامرالشاعر بلغته ويرتفع عن لغة الواقع كونها لاتمتلك عنصر المفاجأة والغواية يجعل منها قطعة مشحونة تستفزّ الخيال وتمارس الانزياح الشديد حيث نهرب اليها من نهارنا المكسو بالتشتت والضياع والحيرة نتيجة ما يكتبا ليوم باسم قصيدة النثروهي براءة من هذه التهمة .
ويمكننا تقسيمها الى :
1- اللغة التعبيريّة : أنّ اللغة في القصيدة التعبيرية عبارة عن كتل من المشاعر الدفينة المتأججة والباحثة عن الأنطلاق من داخل الذات الى الواقع الحقيقي , وفيها نجد كمّاً هائلاً من هذه المشاعر والأحاسيس المرهفة والعميقة. أّنّ اللغة التعبيريّة دائما تسعى الى خلق فضاءات واسعة عن طريق تسخيرالخيال الخصب ورسم هذه المشاعر والأحاسيس بطرق ابداعية خلاّقة . أنّ اللغة التعبيريّة تحاول ان تبثّ النشاط والحيوية في عقل الأنسان , فلا تنقل صور الواقع كما هو , فهي تبتعد كثيرا عن هذا الواقع , أّنّها غرابة اللغة وانزياحاتها العظيمة بطريقةابداعية محببة تجعل الألفة مابين المتلقي والذات الشاعرة المأزومة نفسيا وعاطفيا , الذات المملوءة بالقلق واليأس والغربة , الذات التي ترى القادم مجهولا مظلما يعجّ بالضياع والغربة والتشاؤم ,. كلّما تزداد الأزمات تظهر القصيدة التعبيريّة عند شاعرها بعدما ينصهر الوجود في خياله وأعماقه , فمن خلال قصيدته ( التعبيريّة ) يحاول الشاعرأن يفرغ الشحنات العاطفية الهائلة في أعماقه , فنراه كأنّه يقدّم جزء منذاته , أويقتطع أجزاء من قلبه الرهيف المفعم بصدق المشاعر وكتلة من الأحاسيس والعواطف العاصفة , فمن خلال كتابات الشاعر يمكننا ان نرى بوضوح عوالمه الدفينة ومشاعره الرقيقة. أنّ اللغة التعبيريّة هي اللغة البلّوريّة الت ينكتشف من خلالها العوالم الداخلية والدفينة لروح الذات الشاعرة , فهي بمقدورها أن تقدّم لنا قدراً كبيراً من العالم الباطني مقابل قدراً قليلاً من العالم الخارجي ,.لقدأستطاعت اللغة التعبيريّة أن تمنح الشاعرة الحرّية في ان تعبّرعن أعماقها البعيدة . أنّها لغة الأعماق التي تجعل روح الذات الشاعرة برّاقة ومن خلالها نتمكن من رؤية تلك الأعماق كيف تتجلّى اشراقاتها بوضوح , تلك الروح التي تكون كالبلّور شفّافة رقيقة ناعمة الملمس من خلالها تنفذ اشعة الشمس . ففي قصيدتها / وجهي .. صبحٌ مدلهم الشروق / نرى بوضوح عظمة اللغة التعبيرية وسحرها من خلال هذه المقاطع / مفجوعٌ فؤادي غيماته تمطر سيول جمرات تكوي أيام البهجة / , وكذلك / يبصرني ليل تنازعت خيباته تغفو على شغاف دفاتري ترتدي / , وأيضا نقرا لها / آلآن وقد أثكلتنا فصول أستدام جدب أقدارها من يدرأ متاريس الضياء عن أفقنا البعيد ويعصم أبوابنا من صرير يغلف زفير خوفنا الشاهد موت ضحكاتنا / .. ونترك هذه القصيدة للمتلقي ليستمتع في قراءتها وتلمظّ عذوبتها . لقدأستطاعت الشاعرة عنطريق لغتها التعبيريّة هذه التعبيرعن الجانب الشعوري المتمثّل عن حالات الفرح والحزن ومن الحالات النفسيّة التي بقيت تتأجّج في أعماقها , واستطاعت الألفاظ على نقل المشاعر الدفينة والعميقة بصدق وشفافيّة , وجعلت المتلقي يتفاعل معها عن طريق التأثير الحسّي والأيحاء والتأويل , وأستطاعت أن تفرز تعبيرات أنسانيّة – وجدانيّة – تخاطب الأنسان في كلّ مكان وزمان .
2- اللغة الهامسة : الهمس هوالصوت الخفيّ والذي لانكاد نسمعه , والشعر الهامس هوالشعرالحيّ الذي يتدفق صافيا كالينبوع من الذات الشاعرة ليستقبلها لمتلقي دون عناء اومشقة , تتميّزاللغة بشفافيتها وعذوبتها الجميلة . كثيرة هي اللغة الهامسة في هذا الديون , ونجد الكثير من هذه اللغة الهامسة مبثوثة ومتداخلة مع تجلّيات أخرى , وسنختار مقاطع نصّية من بعض هذه القصائد , فمثلا في قصيدة / عاهدتكَ ألاّ اشرك بملائكتك بشراً / , فمن خلال هذا العنوان نستشعر بهذه اللغة وهي تهمس همساً رقيقاً عذباً , في ترفّ ةتحلّقةقد صوّرت لنا الذات الشاعرة وخلجاتها أصدق تصوير وأعمق , فمثلاً تقول في مقطع نصّي / تحرسني إنّما استحضرتك دعواتي ترجّلت هرولةً تُخلّفُ سماواتك العاليات تهفهف على جدران وحدتي / هنا نتلمس بوضوح نبرات صافية منغّمة تمتلك من الأيحاء والعذوبة والرقّة مما تنقل المتلقي الى عوالم بعيدة داخل الذات الشاعرة , وفي قصيدة أخرى بعنوان / بالأمس / نقرأ هذه اللغة الهامسة / تمشي على الماء بغير بلل وتسير الجبال بترنيمة سحر تمسك عصب الدهشة فتستيقظ الآمال منتشية / هنا نجد بأنّ اللغة الهامسة توحي لنا بانّه أثيرية نابعة من وجدان الذات الشاعرة , هادئة حرّة غير مقيّدة بأي زمن او مكان .
اللغة الصوفية : هي لغة الأشراقات المنبعثة من أعماق القلب نتيجة للصراعات النفسية والمكابدات والأزمات والمرارات , عباراتها ترانيم تخرج من الأعماق مكتوبة فوق سطح الروح البهيّة , لغة حبّ عظيم وتجلّي وسلام , لغة ترتعش كالأغصان الطرية كلّما داعبتها الريح , غضّة متفتحة كالأزهار تفوح بالعطر إذا ما أحسّت بالهناء والهدوء والسكينة , فمثلا نقرا للشاعرة في قصيدة / سيّد الشبق / جنّاتنا الآهلات بفيض الشغف سنهرول إليها آيبون نقوّم ملامح إغتراب الأيام الآفلة نبلّل غصّة الدروب الظامئة …/ لقد كانت هذه اللغة الجسر الذي تعبر عليه الروح في محاولة للكشف والبحث عن الأطمئنان والخلاص , كونها نابعة عن تجربة صادقة , لغة شفيفة طفح بها القلب المبتلى عشاً ووجداً وهياماً , لغة جوّانية حوارية ملامحها تنمّ عن تجربة روحية نقيّة . متى ما أُبتلي القلب بنيران الحبّ وعصفت به مواجيد البُعد والحرمان , حدثت في أعماق النفس صراعات نفسية ومكابدة تستدعي منها الاحتماء خلف جدار الصمت والرمزية وعدم التصريح او تعلن التمرّد والافصاح عمّا يعتريها من مرارات واخفاقات وعثرات في محاولة للتخلّص من ضغوطات قد تؤدي الى حدّ الانفجار, فكيف اذا كان هذا القلب قلب شاعر .. وكيف لو كان قلب شاعرة ..؟؟ !.
أنّ الذات الشاعرة المبتلية دائما تبحث عن النجاة وتشرئب كلماتها نحو الضياء , وقد ترتفع وتسمو عن الارض وما فيها من المحن واللجوء الى السماء والتقرّب من الذات المقدّسة والاحتماء تحت انوارها القدسية , فتكون حينذاك اللغة عبارة عن مفردات مكتوبة فوق سطح الروح بهيّة , انها عبارة عن ترانيم منتزعة من أعماق هذه الذات , لغة حبّ عظيم وتجلّي وسلام لغة راعشة كالغصن الطريّ حين تداعبه الريح , غضّة متفتحة كالازهار تفوح بالعطر اذا ما أحسّت بالهناء والهدوء والسكينة , وضامرة تتوشّح بالسواد اذا ما انتابها الهجر والبُعد عن الحبيب . ونجد ذلك متمثّلاً في قصيدة / كما يهبُّ الحبق عبيرهُ للوادي / وهبتك ايام الشوق الجزيل عطاءً لا يهتدي الا لمدائنك الظامئة بذاراً انثره ينبت في روحي ازهارا أنعش بيات أرضك أحييه اشجاراً ثمارها تتفاخر جسارةً تنضج كروما عرائشها تذكاراتنا الناعمة جدير انتَ بفورة ملاحم القصيد غائر في دسائس الاحلام الشاهقة تتجرد كلما عرتها يقظة الغياب اتنفس فصولك رحيقا محمولا على اثير الشغف يا موسما من مواسم الغناء ../ .