يا دبلوماسي
سام الغباري …
توقفت رحلة المصرية للطيران على مدرج القاهرة الدولي، كانت المدينة غارقة في الضباب، وضوء أعمدة الإنارة يحاول اختراق كثافة البخار الشرس، أخذتني عن هذا المشهد الجميل غفوة على مقعد مريح في الصف الأول، وصوت مضيف الطائرة يهمس في أذني : حمدا لله ع السلامة ياسعادة الباشا
واكتفي بالابتسام ..
يُضيِف : نورت مصر يا سعادة الباشا .
وتتوسع ابتسامتي
..
كان جوازي الدبلوماسي الأحمر براقًا على طاولة بلاستيكية رمادية اللون، فينظرني المضيف الأنيق بعينين فضوليتين، ويسأل : حضرتك دبلوماسي ؟
وأومئ برأسي مُفاخرًا ، ولا أجيب.
ويلتفت على سحنة الفضول : دحنا زرنا النبي يا باشا .
وابتسم
..
قال لي صديقي مُنبِهًا، حين يُرحِب بك “المصري” فلا ترد، فقط ابتسم، تحدث معه بلغة الإشارة، وقد فعلت، فأظهرت تأثيرًا هائلًا، وكان المضيف يمضي إلى مضيفتين كالحليب، وشعر أشقر مثل “لاغيرثا” أسطورة الفايكنج الجميلة، وأشعر أنه يتحدث عني، وكنت أنيقًا بما يكفي لأبدو مثل “ليوناردوا كابيروا” في فيلم “غاتسبي العظيم”
وكان الجواز على حالته، حتى التقطته إلى جيبي مغادرًا سلالم الطائرة، ومنها إلى الخط الاسفلتي المؤدي إلى صالة الجوازات المصرية
وقفت على طاولة زرقاء مرتفعة لأدون بياناتي، ورأيت ورقة بيضاء عليها اسمي، كان مندوب شركة السياحة ينتظرني، ويتمتم بعبارات ترحيب لا حصر لها، وقد أخجلني إذ منعني من كتابة معلوماتي على ورقة الإقرار الطبي، وأخذ جوازي، فمضيت بجواره مغرورًا مثل ديك ظهر عليه صبح هذا الكون وحيدًا، وكانت رابطة عنقي تلمع مثل ريش طاووس .
كان مسار الطابور طويلًا، ومندوب الشركة يتلفت وراءه مرحبًا : تفضل سعادتك. وفضول يقرع رؤوس الراكبين المصطفين على يميني، يتساءلون : من هذا ؟ وأتخطاهم محاولًا التماسك من شدة الإحراج، وأصبح الطابور طويلا مثل الحلم، تذهب إلى غرفة ضابط الجوازات ولا تكاد تصل، مضت برهة كأنها دهر، ووقفت أمامه، فابتسر نظرة من وراء كمامة سوداء، مشيرًا بإصبعه: كمامتك فين؟، وارتبكت، أخرجتها من جيبي ووضعتها على وجهي، وكانت ترتفع بلا سبب حتى تغطي عينيّ ، وأنزلها .
قلّب الضابط جوازي الأحمر بين يديه، وصمت مهيب أحاط قاعة الوصول، وصوت الضابط يعلو: كمان جواز دبلوماسي ! وسمع كل من في الطابور عبارته، مضيفًا : إركن على جنب يا حاج لما نشوف حكايتكو إيه !
ماذا ؟! ، حاج ! أين “سعادة الباشا”؟ ولماذا يزدريني هكذا ؟ من هو حتى يفعل بي ذلك؟ أنقذني مندوب الشركة قائلًا : أصل الحكاية يا (سعادة الباشا) إن السفارة عندكم معفنه وبتوقف كل الجوازات الدبلوماسية لحد ما يتأكدوا من هويتكو !
وكم يستغرق هذا الأمر ؟ ، سألته
- كلها خمس دقايق بس، وأشار بيده اليمنى إلى مقعد بعيد، وعُدت من بين الجموع وقد تبدل حالهم من فضول إلى سخرية، وتمالكت نفسي، هرعت إلى المقعد غارقًا في عرق كثيف دهمني، رغم وعورة البرد واحتدام الضباب، وجُعلت أنظر إلى الأسفل، أتشاغل بهاتفي عمن سواي من تلك العيون الوقحة المُشفِقه .
ومرت خمس دقائق، وعشر، ونصف ساعة، وهبطت طائرة أخرى، وجاء جمع كثيف، عرفني ثلاثة يمنيين منهم، فأقبلوا عليّ مرحبين، وسألوا عن سبب ركوني على مقعدي، وكم لبثت؟، وكانوا ينوون التقاط صور للذكرى، ولمّا عرفوا الحكاية التي رواها ضابط جوازات مصري، انطلق من ركن القاعة متبرعًا بالإجابه، أحجموا، واعتذروا بسبب انتهاء بطاريتهم، وحمدت الله أنهم لم يفعلوا، وكانوا من بعيد يتحاشون وداعي
ومضت ساعة، وهبطت طائرة جديدة، وأنا على حالتي، ومندوب الشركة يحث الخطو بيني وضابط الجوازات الذي أصابه الملل، فصرخ في وجهه : يلعن أبوك أنت والدبلوماسيين بتوعك، على أبو السفارة والسفير. قالها مُنفعِلًا وكدت أصاب بسكتة دماغيه، وتواريت خلف عمود رمادي براق، وقد عرف كل الطابور أنني دبلوماسي يمني يقف رهينة لوقاحة سفارته في مصر
وجاءت شابة سورية تمشي على استحياء، قالت : الله يفرج عليكم يا أهل اليمن، وأعطتني ثلاث وجبات صغيرة من الطائرة، وحلفت أن آخذها . ورقت قلوب المسافرين، وشعرت برغبة عارمة في البكاء
ومضت ساعتين، وهبطت أربع رحلات، وغادر الفجر والضحى والشروق، وبدت الشمس شرسة ملتهبة من وراء الزجاج العالي، واختارني الضوء مركزًا على مقعدي كأنني في خشبة مسرح، وظلت الحسرات تحنو على كل وفد داخل إلى أرض الفراعنة الكرام .
وجاء جمع من الضباط إليّ، وحلفوا أن أتقاسم معهم فطورهم، فرضيت، وأكلنا، وكنت أغمس خبزتي في إناء الفول مقهورًا، أرفعه إلى شفتي المرتعشة، فتهتز مشاعرهم، ويتبادلون النظرات، ويربتني أحدهم بكفه مُشجِعًا : الدبلوماسيين عندكو يا باشا من خيرة الأشخاص، ويرد صاحبه : خيرة مين ياعم، دول زبالة ورمم، ويؤيد آخر : آه والله، دا عندنا ابن خالتي موظف صوغير في الخارجية بيهز الحته كلها
وسقطت الخبزة من يدي، نهضت معاجلًا إلى حمام الرجال، وصوت الضابط يلاحقني: إيه يا باشا، أنت زعلت، ويهتف الثاني: حقك علينا يا (سعادة الباشا)
انحنيت على صنبور المياه وغسلت رأسي، نظرت في المرآة ووجدت جسدًا بلا رأس، كانت رابطة العنق ما تزال مُعلّقة على عنقي، متدلية على صدر تورم من القهر، وعدوت مهرولًا مثل مجنون وسط القاعة الفسيحة، صائحًا : منك لله يا محمد مارم
وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشر ظهرًا، وصوت من ورائي يقول : يا دبلوماسي .. ولم أتمالك نفسي، جثوت على ركبتي، وأخذت يديه راجيًا واجهشت بالبكاء : أنا مش دبلوماسي، أستر عليا ربنا يستر عليك .